مقدمة المرافعة كما يجب
مرافعة الدفاع
بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً: الحضور والطلبات
سيدي الرئيس.. حضرات المستشارين الأجلاء.. يتشرف الماثل أمامكم بالحضور، المأذون له بالمرافعة أمامكم؛ المحامي بالنقض، مع المتهم ويلتمس الحكم ببراءة المتهم مما أسند إليه.ثانياً: بين يَدَيْ الدفاع
سيدي الرئيس..
حضرات المستشارين..
ليس أثقل حِملاً من أمانة الدفاع عن المتهمين في هذه القضية إلا أمانةُ الحكم فيها.
أمانة الدفاع يحملها فرد عن فردٍ، أو فرد عن مجموعة أفراد، يفكر وحده، ويقلب وجوه الرأي مع نفسه، ويكتب دون أن يجد من يصوِّبُ ما كتبه، ثم يعرض عليكم، وعلى الخلق كافة، عقْلَه، من خلال منطقه، وهو واقف في هذا الموقف العَسرِ يتكلم وحده، يتمنى أن تواتيَهُ فيه الحكمة، موقنًا أن فضل الله ـ تعالى جده ـ لا ينقضي، وأنه: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرا} [سورة البقرة: 269] وهو يعاني هذا كله، وأضعافه، ثم لا يدري أصاب أم أخطأ. أحسن أم أساء. أمتَعَ من سمعوه أم أملَّهم. أدى أمانته كما ينبغي أن تؤدى أم قَصَّرَ في أدائها. غاية ما يرجوه: ألا يكون للخائنين خصيمًا.
وعلى الجانب الآخر، ثلاثة قضاة أجلاء، هم أوفر حظًا باجتماعهم منه بانفراده، يتداولون جميعًا، ويقررون معاً، ويعين بعضهم بعضاً على صياغة قولٍ فصلٍ، مجتهدين أن يكون بالحق نطقهم. وبجوهر العدل، لا بشكله حكمهم، يراقبهم في خلوتهم وجلوتهم رقيب لا يغفل ولا ينام، يعلم ما تُسِرُّ الأنفس وتكنُّ الصدور. يستحضرون في كل لحظة قول الله لنبيه r{فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين}[المائدة: ٤٢] والقسط: هو العدل الذي قامت به السماوات والأرض وحسن به الذكر في الأولين والآخرين. وبضده، أي بالجور والظلم، زالت الدول وبادت الحضارات، وقال في أهلها رب العزة بالحق: {كم تركوا من جنات وعيون. وزروعٍ ومقام كريم. ونَعمةٍ كانوا فيها فاكهين. كذلك وأورثناها قومًا آخرين. فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين} [الدخان: ٢٥ ـ ٢٩].
وهؤلاء القضاة الأجلاء يذكرون، كلــما طاف بهم طائف مما لا يحبون، قول ربهـم ـ سبحانه ـ لنبيه r: {فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نَسُوا يوم الحساب} [ص: ٢٦].
***
وأعقد ما في هذه المقارنة بين الطرفين ـ سادتي القضاة ـ أن حساب الذي يحمل أمانة الدفاع يوم القيامة هو حسابٌـ إن شاء الله ـ عن بذل عناية واستفراغ وسع. وأن حسابَالذين يحملون أمانة الحكم هو حسابٌ عن تحقيق غاية والوصول إلى نتيجة. لذلك كان قاضي الجنة، كما في الحديث الصحيح، رجلاً عَلِمَ الحق وقضى به. لا يكفي العلم بالحق، بل هو لا يدخل الجنة حتى يقضي بما علمه من ذلك الحق. وأُمسِكُ عن ذكر حال القاضيين الآخرين في الحديث الشريف راجياً، بكل ما يحتمله القلب من إخلاصٍ، ألا يكون بيننا أحدهما أو كلاهما (!!) .
***
سيدي الرئيس..
حضرات المستشارين..
إن القاضي الذي يستحق ـ عند الله وعند الناس ـ مكانة قاضي الجنة هو الذي يتسع صدره لما قد تضيق بسماعه أذنه. ويستمتع من حديث أطراف الخصومة، وتناضلهم بين يديه، بما يخالف هوى نفسه وميلها، طلباً في ذلك لإرضاء ضميره الباحث عن الحق وحده وعن العدل دون سواه.
والعدل ـ سيدي الرئيس ـ معنىً يقوم بالنفس بعدَ النظرِ في البيّنات ووزنها بميزان العقل والمنطق البشري والقانوني معاً. ثم لا يجري القلم، ولا ينطق اللسان إلا بعد أن يكتمل للقلب اليقين والاطمئنان. فإن تردد ظنٌّ القاضي في صدق التهمة بين وجهين سقط الوجهان المحتملان. ولذلك قرر الفقهاء ـ وتابعتهم أحكام القضاء المصري والعربي ـ أن «ما ثبت باليقين لا يزول بالشك».
***
سيدي الرئيس..
حضرات المستشارين..
إن الثابت يقيناً، بل المفترض أصلاً، هو براءة المتهم: حتى يقوم أمامكم دليل يقطع في القلب الوَجِلِ، وفي النفس التي أوتيتْ تقواها كلَّ شك؛ ويقضي في العقل الهادئ المستبصر على كل تردد: أن المتهم قد ثبتت إدانته بجرم محدد يستحق بسببه عقوبة لا خلاف عليها.